خطبة جمعة
التوحيد الصافي
                                                                                   
لفضيلة الشيخ
عبد الرحمـٰن الحجي
 
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليما كثيرا.
أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وأن أحسن الهدي هدي رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
واعلموا أن شر الأمور محدثاتها، وأن كل محدثة بدعة، وأنّ كل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون، إخواني في الله، إن التوحيد الصّافي جزاؤه أن يدخل صاحبه الجنة بغير حساب ولا عذاب، وأنّ يكون من صفوة أولياء الله وخلّص عباد الله، لا يحاسب ولا يعذّب ولا يشقى ولا يصيبه همّ ولا غم، سبب هـٰذه المكارم تصفيته للتّوحيد، وتصفية التوحيد معناها أن يصفى من الشرك دقيقه وجليله، سره وخفيه وجليه، ومن التعلق بغير الله، وأن يصفّى من البدع، وأن يصفى من الإسرار على المعاصي؛ فإنّ هـٰذه كلها تؤثّر في صفاء التوحيد؛ لأنّ صاحب الشرك وصاحب المعصية وصاحب البدعة يصدق عليه قول الله عزّ وجل: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾[الزمر:67]، فمن صفَّى إخواني صُفِّي له في الآخرة، ومن خلَّط في الدنيا خُلط له في الآخرة، ألستم تعلمون -بارك الله في علمكم ونفعكم به- أن أهل الجنة على مرتبتين:
مرتبة السابقين المقربين.
ومرتبة أصحاب اليمين الأبرار.
وفي كل مرتبة من الدرجات ما لا يعلمه إلا الله، والميزان بالحبة والخردلة، السابقون المقربون صفّوا فصُفي لهم، والأبرار أصحاب اليمين خلطوا فخُلط لهم، قال الله: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ يعني المقرّبين ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)﴾[الإنسان:5-6] فالمقربون يشربون صافيا، والأبرار يُمزج لهم، وقال الله: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)﴾[المطففين:22-28]، أمّا المقربون فيشربون بها صافية دون مزاج، أما الأبرار فيمزج لهم من التسنيم ولا يظلم ربك أحدا، فكلما صفى العبد صُفي له، وكلما خَلط خُلط له، وإذا ازداد الخلط احتاج إلى تصفية حتى تبلغ تصفية، حتى تبلغ التصفية ببعض الموحّدين أن يحتاج أن يصفّى النار؛ فيدخل النار حتى يصفى ثم يخرج منها.
يا عباد الله يقول إمام الأمة محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- في كتابه الذي لم يؤلّف في بابه مثله في تاريخ الإسلام كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، قال: الباب الثالث باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب. ومعنى تحقيقه تصفيته، طوبى لعبد أن يجعل هـٰذا أكبر همه أن يصفي توحيده بالله وأن يصفي تعلقه بالله وأن يحسن الظن بربه ويركن إليه ويعتمد عليه، ويقطع من قلبه الدنيا بما فيه وأهلها إلا الأسباب المشروعة، ثم قال رحمه الله ممثلا برجل كان أعظم رجلين أو أحد رجلين هما القُدوة في تصفية التوحيد وهو إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ  (120)﴾[النحل:120]، قال في موضع آخر في تفسيره في آية النحل قال: إن إبراهيم كان أمة لم يستوحش من طريقه لقلة السّالكين، قانتا لله لا للملوك ولا للتجار المترفين، حنيفا لا يميل يمينا وشمالا كفعل العلماء المفتونين، ولم يكن من المشركين خلافا لمن كثّر سوادهم وزعم أنه من المسلمين. إنّ إبراهيم كان أمّة، إماما في الخير، أمة لوحده، قانتا لله مداوما على طاعة ربه، مقبلا عليه، صابرا على الطاعة، حنيفا معرضا على كل من سوى الله، مقبلا على الله وحده، ولم يكن من المشركين تبرأ منهم ومن موالاتهم ومن محبتهم بما في ذلك أقرب الأقربين، وصبر أياما قلائل، وكان هو خليل الرحمـٰن، صفى فصُفي له، وجعل له لسان صدق في الآخرين فهو إمامنا وإمام كل موحد إلى يوم الدين ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ صفى ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾، والآية الثانية قول الله: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59)﴾[المؤمنون :59]، لما ذكر الله صفات الخلَّص المخلصين قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)  أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) ﴾[المؤمنون:57-61].
ثم قال رحمه الله: (عن حصين بن عبد الرحمـٰن) السلمي (قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقضّ البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة،) أي لم أكن أتهجد (ولكني لُدِغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي.) وكان القوم لا يعملون شيئا إلا على الأثر (قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا) الشعبي (عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حُمَة.) يعني لا رقية أنفع، والحمة هي لدغة ذوات السموم، فـ(قال) سعيد (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أدبه بالأولى بأن طلب الأثر وأدبه بالثانية بأن أثنى على من التزم الأثر، ثم دله على أحسن من ذلك، فقال: (ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((عُرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط))) وفي رواية في مسلم (الرهيط)، ((والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)) نبي وافق في المحشر وليس معه أحد، بالله عليكم هل قصر هؤلاء في الدعوة؟ لا والله، لماذا لم يتبعهم الناس؟ لأنهم لم يحاولوا استرضاء الناس، ولم يتنازلوا عن مبادئهم ودعوا إلى التوحيد وصبروا عليه، وهؤلاء الناس لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، لم يعلم الله في قلوبهم خيرا فلم يفتحها للخير، وهؤلاء الأنبياء مقرّبون عند الله وهكذا فليكن الدعاة إلى الله، لا يلتفتوا لاسترضاء الناس والبحث عما يريدون وإنما الاستمساك بالصراط المستقيم، يقول –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هـٰذا موسى وقومه.)) وفي هـٰذا دليل على أن المؤمنين بعد أمة محمد أكثر ما يكونون في أمة موسى عليه السلام، وأن التحريف إنما وقع بعدهم، (فنظرت فإذا سواد عظيم،) وفي رواية: (قيل لي: أنظر في الأفق)، ((فقيل لي: هـٰذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)) وهم الذين ذكروا في الحديث الآخر أنهم أول زمرة يدخلون الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، يدخلون سويا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم متماسكون، ((ثم نهض فدخل منزله)). فكان الصّحابة يخوضون في أمر العلم والديانة، عندهم إقبال على الدين وحرص عليه، فأخذوا يتباحثون في هؤلاء السبعين (فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.) وهـٰذا فقه عظيم أنهم عرفوا أن الصحابة لا يعدلهم أحد (وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئًا. وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبروه، فقال: ((هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيّرون، وعلى ربهم يتوكلون)).) هؤلاء حققوا التوحيد، هؤلاء حققوا تمام التعلق بالله -عز وجل- وتمام الركون إليه، وتمام إحسان الظن به، حتى إن المريض -كما لا يخفاكم- قد يدعي الدعاوى فإذا أصابه المرض ضعف، فهو يلتمس أسباب الشفاء في كل شيء، لكن هؤلاء لو علموا أن سبب الشفاء في أمر محرم أو مكروه تركوه واعتمدوا على الله؛ لأن الاسترقاء وطلب الرقية من الناس فيها ذلة وفيها تعلق بالراقي أو الرقية، والكي فيه أيضا أن العرب كانت تعتقد أنه يسبب الشفاء دائما، وأيضا فيه تعذيب بالنار  ولذلك كرهه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كان لم يحرمه، فهؤلاء الصفوة المخلصين إذا رأوا السبب فيه شبهة أو فيه شيء وهم مرضى محتاجون للشفاء تركوه، هكذا فليكن الابتلاء والامتحان.
إن دعوى التوكل لا تظهر إلا في مثل هـٰذه المواطن يظهر فيها أهل الصفاء وأهل الإخلاص كما قال الله: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)﴾[الأحزاب:22]، ورب الكعبة لا يطيق هـٰذا إلا مؤمن خالص، وقال الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)  فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾[آل عمران:173-174].
يا عباد الله، هـٰذا هو التوحيد، وهـٰذا هو الباب من أراد أن يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، (فقام عكّاشة بن محصن) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.) وكان الله علم نبيه أن هـٰذا الرجل أنه سيبلغ هـٰذه المرتبة (قال: ((أنت منهم)). ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم.) فرد عليه –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- ردا لطيفا لا يجرحه ويغلق الباب (فقال: ((سبقك بها عكاشة)).) والحديث في الصحيحين.
عباد الله، إخوتي في الله، هـٰذا الأمر جزاؤه أن لا تحاسَب ولا تعذَّب ولا تشقى ولا يصيبك هم ولا غم، وعمله أن تسعى من الآن في تصفية التوحيد، تراقب قلبك، هل هو متعلق بالله موقن أن الله هو الضار الوحيد النافع الوحيد، الضار الوحيد، الخالق الوحيد، الرازق الوحيد، فتتعلق به وتركن إليه إن من أسباب لك أن تعرف الله حق معرفته، فإنك إن فعلت ذلك فإنك ستقدره حق قدره، ومن أسباب ذلك أن تعود نفسك على التوكل وعلى التوحيد وعلى التعلق بالله، وأنّ كل شيء قد فُرغ منه، وأن الله له الحكمة البالغة، فإن هـٰذا الأمر بالتعود والتركيز ينمو ويزداد ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾[الطلاق:03].
اللهم افتح لنا أبواب خيراتك، اللهم نور بصائرنا، اللهم فقهنا في دينك، اللهم أعنا ووفقنا أن نكون ممن حقّق التوحيد، فدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعلم أن هؤلاء ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، أكثر هؤلاء السبعين من صدر هـٰذه الأمة، اللهم إنا نعلم أن هؤلاء ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، أكثر هؤلاء السبعين من صدر هـٰذه الأمة، وفي آخر هـٰذه الأمة إنما هم غرباء، وفي آخر هـٰذه الأمة إنما هم غرباء وأفراد، اللهم اجعلنا منهم برحتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا ممن تعلق بك تمام التعلق، وركن إليك وأحسن الظن بك واعتمد عليك، اللهم وجهنا وجوهنا إليك وأسلمنا نفوسنا إليك، وألجأنا ظهورنا إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنا بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت، اللهم أعطنا الفضل كله والخير كله، أنت حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.