قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ -مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
فقد تضمنت هذه الثلاث آيات ثلاث مسائل:
الآية الأولى: فيها المحبة; لأن الله منعم، والمنعم يُحَبُّ على قدر إنعامه؛ والمحبة تنقسم إلى أربعة أنواع:
المحبة الأولى: محبة شركية، وهي محبة الذين قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ). إلى قوله: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).
والمحبة الثانية: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله؛ وهذه صفة المنافقين.
والمحبة الثالثة: طبيعية، وهي محبة المال والولد، فإذا لم تشغل عن طاعة الله، ولم تعن على محارم الله، فهي مباحة.
والمحبة الرابعة: حب أهل التوحيد، وبغض أهل الشرك، وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد بها الإنسان ربه.
الآية الثانية: فيها الرجاء.
والآية الثالثة: فيها الخوف.
وأما قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). أي: أعبدك يا رب بما مضى بهذه الثلاث، بمحبتك ورجائك وخوفك؛ هذه الثلاث أركان العبادة، وصرفها لغير الله شرك.
وفي هذه الثلاث الرد على من تعلق بواحدة منها، كمن تعلق بالمحبة وحدها، أو تعلق بالرجاء وحده، أو تعلق بالخوف وحده، فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك.
وفيها من الفوائد: الرد على ثلاث الطوائف التي كل طائفة تعلق بواحدة منها، كمن عبد الله بالمحبة وحدها- كالصوفية- وكذلك من عبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة، وكذلك من عبد الله بالخوف وحده كالخوارج.
وأما قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). ففيها توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ). فيها توحيد الألوهية، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). فيها توحيد الربوبية.
وأما قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). ففيها الرد على المبتدعين.
وأما الآيتان الأخيرتان، ففيها من الفوائد: ذكر أحوال الناس، قسمهم الله ثلاثة أصناف: منعم عليه، ومغضوب عليه، وضال; فالمغضوب عليهم أهل علم ليس معه عمل; والضالين: أهل عبادة ليس معها علم; وإن كان سبب النّزول في اليهود والنصارى، فهي لكل من اتصف بذلك; والنوع الثالث: من اتصف بالعلم والعمل، وهم المنعم عليهم.
وفيها من الفوائد: التبرؤ من الحول والقوة، لأنه منعم عليك.
وكذلك فيها: معرفة الله على التمام، ونفي النقائص عنه تبارك وتعالى.
وفيها: معرفة الإنسان نفسه، ومعرفة ربه، فإنه إذا كان رب فلابد من مربوب، وإذا كان هنا عبد فلابد من معبود.
وإذا كان هنا هاد فلابد من مهدي; وإذا كان هنا منعم عليه فلابد من منعم، وإذا كان هنا مغضوب عليه فلابد من غاضب; وإذا كان هنا ضال فلابد من مضل؛ فهذه السورة تضمنت الألوهية، والربوبية، ونفي النقائص عن الله؛ وتضمنت معرفة العبادة وأركانها، والله أعلم.
وأما الكلمة الرابعة: فأولها، وهو قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). معاهدة منك لربك عز وجل أنك لا تشرك بعبادته أحدًا، لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً، ولا غيرهما.
وآخرها، وهو قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). سؤال منك لمولاك سبحانه أن يعينك على أمور دينك ودنياك، ولا يكلك إلى نفسك، ولا إلى أحد من خلقه، وإخبار منك أنك لا تستعين إلا به تبارك وتعالى.
وفي الآية الخامسة، وهي قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). إلى آخرها، تسأله تعالى أن يهديك إلى طريق الجنة، الذي لا اعوجاج فيه، الذي نصبه طريقًا إليها، لا طريق لها إلا هو، وهو التوحيد والبراءة من الشرك وتوابعه، وذلك مع أداء الفرائض وترك المحارم.
والسادسة، وهي قوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). تبين أن الطريق الذي طلبت من مولاك أن يهديك إليه، هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الجامع لمعرفة الحق والعمل به.
ثم تبين ذلك وتوضح بالآية السابعة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ). فالمغضوب عليهم: الذين وهبهم الله الفهم فعرفوا الحق من الباطل، لكن لم يعملوا، والضالون: هم الذين عملوا وطلبوا الطريق لكن بجهل. فإذا سلم العبد من آفة الجهل، وصار من أهل المعرفة؛ ثم سلم من آفة الفسق وعمل بما أمره الله به، صار من الذين أنعم الله عليهم، من أهل الصراط المستقيم. وهذا الدعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة؛ أما جمعه لخير الآخرة فواضح. وأما جمعه لخير الدنيا، فلأن الله تعالى يقول: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). والإيمان والتقوى هو الصراط المستقيم، فقد أخبر أن ذلك سبب لفتح بركات السماء والأرض، هذا في الرزق.
وأما في النصر، فقد قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). فأخبر الله أن العزة تحصل بالإيمان وهو الصراط المستقيم، فإذا حصل العز والنصر، وحصل فتح بركات السماء والأرض، فهذا خير الدنيا، والله أعلم.